الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع، على أن حذف ما أضيفت إليه {بعدُ} ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو: إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب: 50] الخ. وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان، أي من بعد هذا الوقت، والأول الراجح. و {بعد} يجوز أن يكون بمعنى (غير) كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23] وهو استعمال كثير في اللغة، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} أي غيرهن، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال: «نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات» فقال: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} فأحل الله المملوكات المؤمنات {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب: 50]. ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك. ويجوز أن يكون {بعدُ} مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق. وبناء {بعدُ} على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوففٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في «شرحه على قطر الندى»، فيجوز أن يكون التقدير: من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر: من غير مَن ذكرن، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن (وكن تسعاً)، أو مَن اخترتهن. ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً، أي بعد اليوم أو الساعة، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله: خالصة لك} [الأحزاب: 50]. وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت: «ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء». وقال حديث حسن. (وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها: ما مات، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة. و {النساء} إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة: حذارا على أن لا تُنال مقادتي *** ولا نِسوتي حتى يَمُتْنَ حرائرا أي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن. وقوله: {ولا أن تبدل بهن} أصله: تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، يقال: بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد، ومادة البدل تقتضي شيئين: يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف {مِن}، وتقدم عند قوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} في سورة البقرة (108). والمعنى: أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال. فالمعنى: أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة. والمعنى: ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى. وضمير {بهن} عائد إلى ما أضيف إليه {بعد} المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة. والمعنى: ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها. فالباء داخلة على المفارقة. و {مِن} مزيدة على المفعول الثاني ل {تبدل} لقصد إفادة العموم. والتقدير: ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله: {إلا ما ملكت يمينك}. وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج، فشملها حكمهن، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف. وقرأ الجمهور {لا يحل} بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم. وجملة {ولو أعجبك حسنهن} في موضع الحال والواو واوه، وهي حال من ضمير {تبدل}. و{لو} للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى، وقد تقدم في قوله تعالى: {ولو افتدى به} في آل عمران (91). والمعنى: لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك. وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء. وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة، إذ قالت للنبيء: ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك. وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله: وكان الله على كل شيء رقيباً} أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه، فهو يجازي على حسب ذلك. وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم. والاستثناء في قوله: {إلا ما ملكت يمينك} منقطع. والمعنى: لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال. والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ {النساء} في قوله: {لا يحل لك النساء} ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا وَلاَ مُسْتَئنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكَ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحِى مِنكُمْ واللهُ لاَ يَسْتَحِى مِنَ الحَقِّ}. لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، وصدره بالإِشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية. وهي ما في «صحيح البخاري» وغيره عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاماً بخبز ولحم ودعا القوم فطعِموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيّأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام فلما قام قام مَن قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة... فتقَرَّى حُجَرَ نسائه كلهن يسلّم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له، ثم إنهم قاموا فانطلقتُ فجئت فأخبرتُ النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبتُ أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي} إلى قوله: {من وراء حجاب}. وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: «يا رسول الله يدخل عليك البَّرُ والفاجر فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب» فأنزل الله آية الحجاب. وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها. وابتدئ شرع الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا لطعام دعاهم إليه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام له مجلس يجلس في المسجد فمن كان له مهمّ عنده يأتيه هنالك. وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييداً لإباحة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام ولكنه مثال للدعوة وتخصيص بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول فيلحق به كل دعوة تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيراً. ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يَدعوه عمر إلى الغدَاء ففتح عليه الآية ودخل فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به فانطلق به إلى بيته وأمر له بعُسّ من لبن ثم ثاننٍ ثم ثالث، وإنما ذكر الطعام إدماجاً لتبيين آدابه، ولذلك ابتدئ بقوله: {غير ناظرين إناه} مع أنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول. وقرأ الجمهور {بيوت} بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء، وقد تقدم في سورة النساء وغيرها. و {إناه} بكسر الهمزة وبالقصر: إما مصدر أَنَى الشيءُ إذا حان، يقال: أنى يأنِي، قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16]. ومقلوبه: آن. وهو بمعناه. والمعنى: غير منتظرين حضور الطعام، أي غير سابقين إلى البيوت وقبْل تهيئته. والاستثناء في {إلا أن يؤذن لكم} استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه، أي إلا حال أن يؤذن لكم. وضُمِّن {يؤذن} معنى تُدعون فعدي ب {إلى فكأنه قيل: إلا أن تُدعَوْا إلى طعام فيؤذن لكم لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو فهي حالة غير مقصودة من الكلام. فالكلام متضمن شرطين هما: الدعوة، والإِذن، فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن وقد يقترنان كما في حديث أنس بن مالك. وغير ناظرين} حال من ضمير {لكم} فهو قيد في متعلق المستثنى فيكون قيداً في قيدٍ فصارت القيود المشروطة ثلاثة. و {ناظرين} اسم فاعل من نظَر بمعنى انتظر، كقوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102] الآية. ومعنى ذلك: لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول فتقعدوا تنتظرون نُضجه. وعن ابن عباس نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي فيدخلون قبل أن يُدرك الطعام فيقعدون إلى أن يُدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ا ه. وقد يقتضي أن ذلك تكرر قبل قضية النَفر الذين حضروا وليمة البناء بزينب فتكون تلك القضية خاتمة القضايا، فكُني بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل. ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهماً وجشعاً وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجهاً إلى صريح الانتظار. وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار، وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه لأن تقيد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دُعي لأجله، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمَر أو نحو ذلك، وكل ذلك يتحدد بالعرف وما لا يَثقل على صاحب المحل، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه. و {طعمتم} معناه أكلتم، يقال: طعم فلان فهو طاعم، إذا أكل. والانتشار: افتعال من النشر، وهو إبداء ما كان مطوياً، أطلق على الخروج مجازاً وتقدم في قوله: {وجعل النهار نُشوراً} في سورة الفرقان (47). والواو في ولا مستأنسين} عطف على {ناظرين} وما بينهما من الاستدراك وما تفرع عليه اعتراض بين المتعاطفين. وزيادة حرف النفي قبل {مستأنسين} لتأكيد النفي كما هو الغالب في العطف على المنفي وفي تصدير المنفي نحو قوله: {فلا وربك يؤمنون} الآية [النساء: 65] وقوله: {لا يسخر قوم من قوم} [الحجرات: 11] ثم قوله: {ولا نساء من نساء} [الحجرات: 11]. والاستئناس: طلب الأنس مع الغير. واللام في {لحديث} للعلة، أي ولا مستأنسين لأجل حديث يجري بينكم. والحديث: الخبر عن أمر حدث، فهو في الأصل صفة حُذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإِخبار عن أمر حدث، وتُوسّع فيه فصار الإِخبار عن شيء ولو كان أمراً قد مضى. ومنه سمي ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً كما يسمى خبراً، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة، ومنه قولهم: حديثُ خرافة، وقول كثير: أخذنا باكتراث الأحاديث تبييناً ***.... البيت واستئناس الحديث: تسمُّعه والعناية بالإِصغاء إليه، قال النابغة: كأن رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مُستأنس وَحَدِ أي كأني راكب ثوراً وحشياً منفرداً تسمَّع صوت الصائد فأسرع الهروب. وإضافة {بيوت النبي} على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكاً لهم من الأنصار، وبالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة، فإن المدينة فتحت بكلمة الإِسلام فأصبحت داراً للمسلمين. ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركه ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبيء صلى الله عليه وسلم من فَدَك ونخللِ بني النضير، فكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفّاهن الله من عند آخرتهن، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد بن عبد الملك وأمير المدينة يومئذٍ عمر بن عبد العزيز. ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يُعطَ ورثتُهن شيئاً ولا سألوه. وإضافتها إلى ضميرهن في قوله: {ما يتلى في بيوتكن} [الأحزاب: 34] على معنى لام الاختصاص لا لام الملك. قال حماد بن زيد وإسماعيل بن أبي حكيم: هذه الآية أدبٌ أدَّبَ اللَّهُ به الثقلاء، وقال ابنُ أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحَدٍ القلقَ والغمّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل. وهو من مساوئ الخلق لأنه إن كان عن عمد كان ضراً بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاد صبر المضرور، فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يُخدل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يُضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته وهو يصل إلى حدّ يكون الشعور به بديهياً. وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق. ومعاملة الناس النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق أشد بعداً عن الأدب لأن للنبيء صلى الله عليه وسلم أوقاتاً لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يَشغل أحد أوقاتَه إلا بإذنه، ولذلك قال تعالى: {إلا أن يؤذن لكم}. والأمر في قوله: {فادخلوا} للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة، وتقييد النهي بقوله: {غير ناظرين إناه} للتنزيه لأن الحضور قبل تهيّؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإِذن فهو تطفل. والأمر في قوله: {فانتشروا} للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام، وإنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذوننِ لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله؛ إلا أنه نظري قد يُغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعاً لا يتقيّد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزاً بيناً. وعطف {ولا مستأنسين لحديث} راجع إلى هذا الأمر بقوله: {فانتشروا} فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول، فذكر بإثره وحصل تفنن في الكلام. وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكاً للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه. وجملة {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم} استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا. فمناط التحذير قوله: {ذلكم كان يؤذي النبي} فإن أذى النبي صلى الله عليه وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى. ومناط دفع الاغترار قوله: {فيستحيي منكم} فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذناً وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظوراً لما سكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأرشدهم الله إلى أن السكوت الناشئ عن سبببٍ هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص. وإنما كان ذلك مؤذياً النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشؤون النبوءة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشؤون ذاته وبيته وأهله. واقتران الخبر بحرف {إنّ} للاهتمام به. ولك أن تجعله من تنزيل غير المُتردد منزلة المتردد لأن حال النفَر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج، فغفلوا عما في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيتِهِ بقاءَهم، تلك حالة من يظن ذلك مأذوناً فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديداً في التحذير واستفاقة من التغرير. وإقحام فعل {كان} لإِفادة تحقيق الخبر. وصيغ {يؤذي} بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر، والتكرير كناية عن الشدة. والأذى: ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل. وتقدم في قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} في آل عمران (111)، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه. والتفريع في قوله: {فيستحيي منكم} تفريع على مقدر دلت عليه القصة. والتقدير: فيهمّ بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعاً على الإِيذاء ولا هو من لوازمه. ودخول {مِن} المتعلقة ب {يستحيي} على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف، أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه. وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء يختلف باختلاف الذوات، فقولك: أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له. ولك أن تقول: استحييت من أن أفعل كذا بمرأى من فلان. وعلى التقدير الأول تكون {مِن} للتعليل، وعلى التقدير الثاني تكون {مِن} للابتداء. وظاهر كلام «الكشاف» يقتضي أن: استحييت من فلان مجاز أو توسع، وأن: استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة. وظاهر كلام صاحب «الكشاف» عكس ذلك والأمر هيّن. وصيغ فعل {يستحيي} بصيغة المضارع لأنه مفرع على {يؤذي النبي} ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه. وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعدياً على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه، ولكن يؤخذ الحظر أو الإِباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا: {إن ذلكم كان يؤذي النبي} ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصدِ إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه. ولم يجعلوا في إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلاً على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى: {فاعف عنهم} [المائدة: 13] وقوله: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159]. فهذا ملاك الجمع بين الإِيذاء والاستحياءِ والحقّ في هذه الآية، فقد تولى الله تعالى الذبّ عن حق رسوله وكفاه مؤونة المضض الداعي إليه حياؤه. وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه «الشفاء». فإن قلت: ورد في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من البيت ليقومَ الثلاثةُ الذين قعَدُوا يتحدثون، فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلاً من خروجه هو. قلت: لأن خروجه غيرُ صريح في كراهية جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلم وجملة {والله لا يستحيي من الحق} معطوفة على جملة {فيستحيي منكم} والمعنى: أن ذلك سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإِنكار ترجيحاً منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4]. وصيغت الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالِفةً للمعطوفة هي عليها فلم يقل: ولا يستحيي الله من الحق، للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته، فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضاً من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى. والتعريف في {الحق} تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في {الحمد لله} [الفاتحة: 2]. والمعنى: والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق. و {الحق}: ضد الباطل. فمنه حق الله وحق الإِسلام، وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها، وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه. ويشتمل حقَ النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وأوقاته، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل. و {مِن} في قوله: {من الحق} ليست مثل {من} التي في قوله: {فيستحيي منكم} لأن {مِن هذه متعينة لكونها للتعليل إذ الحق لا يُستحيَى من ذاته فمعنى إن الله لا يستحيي من الحق أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه. وقد أفاد قوله: والله لا يستحيي من الحق} أن من واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإِسلامي في إقامته، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقاً راجعاً إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإِمكان. وهذا المعنى فهمته أمُّ سُليم وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على فهمها، فقد جاء في الحديث الصحيح: " عن أم سَلَمة قالت: جاءت أم سُليم إلى النبي فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله: نعم إذا رأت الماء ". فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستححِ في إخبارها بذلك. ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزاماً أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها. وقد رأى علي بن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء، ففي «الموطأ» عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟ قال علي: فإن عندي ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله» الحديث. على أن بين قضية أم سُليم وقضية علي تفاوتاً من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر. واعلمْ أن في ورود {يؤذي} هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب «المثل السائر» شاهداً على أن الكلمة قد تروق السامعَ في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع. وجاء بكلمة {يؤذي} في هذه الآية، ونظيرها (تؤذي) في قول المتنبي: تَلذ له المروءة وهي تُوذي *** وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضباً من ابن الأثير لا تُسوِّغه صناعة ولا يشهد به ذوق، ولقد صرف أيمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يَعُدَّ عليه أحد منهم هذا منتقَداً، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبق له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة، وليس في البيت شيء من الإِخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانياً من كتاب «دلائل الإعجاز» فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياها إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام، وشتان ما بين الصنيعين. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسالوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ}. عطف على جملة {لا تدخلوا بيوت النبي} فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها. وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين، وقد قيل: إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمس. وضمير {سألتموهن} عائد إلى الأزواج المفهوم من ذِكر البيوت في قوله: {بيوت النبي} فإن للبيوت ربَّاتهن وزوجُ الرجل هي ربة البيت، قال مرة بن مَحْكَان التميمي: يا ربةَ البيت قُومي غيرَ صاغرة *** ضمّي إليك رجال الحي والغُربا وقد كانوا لا يبني الرجل بيتاً إلا إذا أراد التزوج. وفي حديث ابن عمر: كنت عزباً أبيت في المسجد. ومن أجل ذلك سَموا الزفاف بناء. فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدَلت البيوت على الأزواج بالالتزام. ونظير هذا قوله تعالى: {وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين} [الواقعة: 34 38] فإن ذكر الفرش يستلزم أن للفراش امرأة، فلما ذكر البيوت هنا تبادر أن للبيوت رباتتٍ. والمتاع: ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها، ومثل سؤال العفاة ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤاللٍ عن الدِّين أو عن القرآن، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين. والحجاب: السَّتْر المُرخَى على باب البيت. وكانت الستور مرخاة على أبواب بيوت النبي صلى الله عليه وسلم الشارعة إلى المسجد. وقد ورد ما يبين ذلك في حديث الوفاة حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم في الصلاة فكشف الستر ثم أرخى الستر. و {من وراء حجاب} متعلق ب {فاسألوهن} فهو قيد في السائل والمسؤول المتعلق ضميراهما بالفعل الذي تعلق به المجرور. و{من} ابتدائية. والوراء: مكان الخلف وهو مكان نسبي باعتبار المتجه إلى جهة، فوراء الحجاب بالنسبة للمتجهين إليه فالمسؤولة مستقبلة حجابها والسائل من وراء حجابها وبالعكس. والإِشارة ب {ذلكم} إلى المذكور، أي السؤال المقيد بكونه من وراء حجاب. واسم التفضيل في قوله: {أطهر} مستعمل للزيادة دون التفضيل. والمعنى: ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإِلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها وما يقرب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهن صلى الله عليه وسلم فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية عنهن بقطع دابرها ولو بالفرض. وأيضاً فإن للناس أوهاماً وظنوناً سُوأَى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامة ووهناً، ونَفَاقاً وضعفاً، كما وقع في قضية الإِفك المتقدمة في سورة النور فكان شَرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعاً لكل تقول وإرجاف بعمد أو بغير عمد. ووراء هذه الحِكَم كلها حكمة أخرى سامية وهي زيادة تقرير معنى أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أُمومة جَعلية شرعية بحيث إن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن أمهات يرتد وينعكس إلى باطن النفس وتنقطع عنه الصور الذاتية وهي كونهن فلانة أو فلانة فيصبحْن غير متصوَّرات إلا بعنوان الأمومة فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمى في النفوس، ولا تزال الصور الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريباً في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنه الناس لملوكهم في القدم ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية. وبهذه الآية مع الآية التي تقدمتها من قوله: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32] تحقق معنى الحجاب لأمهات المؤمنين المركبُ من ملازمتهن بيوتهن وعدممِ ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين، وهو حجاب خاص بهن لا يجب على غيرهن، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعاً وهم متفاوتون في ذلك على حسب العادات، ولما أنشد النميري عند الحجاج قوله: يُخمرن أطرافَ البنان من التقى *** ويَخرجن جَنح الليللِ مُعْتَجِرات قال الحجاج: وهكذا المرأة الحرة المسلمة. ودل قوله: {لقلوبكم وقلوبهن} أن الأمر متوجه لرجال الأمة ولنساء النبي صلى الله عليه وسلم على السواء. وقد أُلحق بأزواج النبي عليه السلام بنته فاطمة فلذلك لما خرجوا بجَنازتها جعلوا عليها قبة حتى دُفنت، وكذلك جعلت قبة على زينبَ بنت جَحش في خلافة عمر بن الخطاب. {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيمًا}. لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يؤذيه أُتبع بالنهي عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم نهياً عاماً، فالخطاب في {لكم} للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الآية. والواو عاطفة جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة {وإذا سألتموهن متاعاً} وجملة {لا جناح عليهن في آبائهن} [الأحزاب: 55]. ودلت جملة {ما كان لكم} على الحظر المؤكد لأن {ما كان لكم} نفيٌ للاستحقاق الذي دلت عليه اللام، وإقحام فعل {كان} لتأكيد انتفاء الإِذن. وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم. وتضمنت هذه الآية حكمين: أحدهما: تحريم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأذى: قول يقال له، أو فعل يُعامل به، من شأنه أن يغضبه أو يسوءه لذاته. والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفاً. والمعنى: أن أذى النبي عليه الصلاة والسلام محظور على المؤمنين. وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب «الشفاء» لعياض. والحكم الثاني: تحريم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بقوله تعالى: {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً} وهو تقرير لحكم أُمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]. وقد حُكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية: منها أن رجلاً قال: لو مات محمد تزوجتُ عائشة، أي قاله بمسمع ممن نقلَه عنه فقيل: هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المظنون بقائل ذلك. وقيل: هو من المؤمنين، أي خطر له ذلك في نفسه، قاله القرطبي. وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيْد الله. وقال ابن عباس: كانت هفوة منه وتاب وكفَّر بالحج ماشياً وبإِعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة. وقال ابن عطية: هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك، أي إنْ حمل على ظاهر صدور القول منه فأما إن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك. وأقول: لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة بن عبيد الله. وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فإن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفى على الناس فكيف يتفرد بروايته من انفرد. وإن كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي اطَّلع على ما في قلبه، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب. فإن كان لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عَقب هذه الآيات {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض} [الأحزاب: 60] الآية. وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد، لأن ثبوت ذلك في حياته قد عُلم من قوله: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6]. وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبي عليه الصلاة والسلام تُعيِّن أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإِضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطَلاق لأن طلاق النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه غير محتمل شرعاً لقوله: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} [الأحزاب: 52]. وأكد ظرف (بعدُ) بإدخال {من الزائدة عليه، ثم أكد عمومه بظرف {أبداً} ليُعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيداً وتحذيراً بقوله: {إن ذلكم كان عند الله عظيماً}، فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله}. والإِشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وتزوج أزواجه، أي ذلكم المذكورُ. والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام. وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف لأنه عظيم في الشناعة. وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم إثماً عظيماً عند الله، أن الله جعل نساء النبي عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمَّه، وذلك إثم عظيم. واعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعاذت منه فقال لها: الحقي بأهلك، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب. ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوّجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر همّ بعقابه فقال له عمر: إن رسول الله لم يدخل بها. والمرويات في هذا الباب ضعيفة. والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنيْن وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجاً فإنما هو مراكنة ووعد، ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال لها: هبي لي نفسك (أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها) فقالت: ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك. فقال لها: لقد استعذت بمعاذ. فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر لأبي بكر أو قول من قال لعمر: إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد. وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إمام الحرمين والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها. على أنه يظهر أن الإضافة في قوله: {أزواجه} بمعنى لام العهد، أي الأزواج اللائي جاءت في شأنهن هذه الآيات من قوله: {لا يحل لك النساء من بعد} [الأحزاب: 52] فهن اللاءِ ثبت لهن حكم الأمهات. وبعد فإن البحث في هذه المسألة مجرد تفقه لا يبنى عليه عمل.
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)} كلام جامع تحريضاً وتحذيراً ومنبئ عن وعد ووعيد، فإن ما قبله قد حوى أمراً ونهياً، وإذ كان الامتثال متفاوتاً في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسباً لتنبيههم وتذكيرهم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء، فالمراد من {شيئاً} الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم. والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله: {بكل شيء}. وإظهار لفظ {شيء} هنا دون إضمار لأن الإِضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانياً هو غير المذكور أولاً، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات، والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة، فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم.
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)} تخصيص من عموم الأمر بالحجاب الذي اقتضاه قوله: {فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53]. وإنما رفع الجناح عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أنهن مأمورات بالحجاب كما أمر رجال المسلمين بذلك معهن فكان المعنى: لا جناح عليهن ولا عليكم، كما أن معنى {فاسألوهن من وراء حجاب} أنهن أيضاً يُجِبن من وراء حجاب كما تقدمت الإِشارة إليه يقوله: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} [الأحزاب: 53]. والظرفية المفادة من حرف {في} مجازية شائعة في مثله، يقال: لا جناح عليك في كذا، فهو كالحقيقة فلا تلاحظ فيه الاستعارة، والمجرور مقدر فيه مضاف تقديره: في رُؤية آبائهن إيَّاهُن، وإنما رجح جانبهن هنا لأنه في معنى الإِذن، لأن الرجال مأمورون بالاستئذان كما اقتضته آية سورة النور، والإِذن يصدر منهن فلذلك رُجّح هنا جانبهن فأضيف الحكم إليهن. والنساء: اسم جمع امرأة لا مفرد له من لفظه في كلامهم، وهن الإِناث البالغات أو المراهقات. والمراد ب {نسائهن} جميع النساء، فإضافته إلى ضمير الأزواج اعتبار بالغالب لأن الغالب أن تكون النساء اللاتي يدخلن على أمهات المؤمنين نساء اعتدن أن يدخلن عليهن، والمراد جميع النساء. ولم يذكر من أصناف الأقرباء الأعمام ولا الأخوال لأن ذكر أبناء الإِخوان وأبناء الأخوات يقتضي اتحاد الحكم، من أنه لما رفِع الحرج عنهن فيمن هن عمات لهن أو خالات كان رفع الحرج عنهن في الأعمام والأخوال كذلك، وأما قرابة الرضاعة فمعلومة من السنة، فأريد الاختصار هنا إذ المقصود التنبيه على تحقيق الحجاب ليفضي إلى قوله: {واتقين الله}. والتفت من الغيبة إلى خطابهن في قوله: {واتقين الله} لتشريف نساء النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه الخطاب الإِلهي إليهن. والشهيد: الشاهد مبالغة في الفعل.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} أعقبت أحكام معاملة أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه وتشريف مقامه إيماء إلى أن تلك الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى، وإلى أن لأزواجه من ذلك التشريف حظًّا عظيماً. ولذلك كانت صيغة الصلاة عليه التي علَّمها للمسلمين مشتملة على ذكر أزواجه كما سيأتي قريباً، وليُجعل ذلك تمهيداً لأمر المؤمنين بتكرير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء والدعاء والتعظيم، وذُكرَ صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالاً من صلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك، والتأكيد للاهتمام. ومجيء الجملة الإسمية لتقوية الخبر، وافتتاحها باسم الجلالة لإِدخال المهابة والتعظيم في هذا الحكم، والصلاة من الله والملائكة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} في هذه السورة (43). وهذه صلاة خاصة هي أرفع صلاة مما شمله قوله هو الذي يصلي عليكم وملائكته} لأن عظمة مقام النبي يقتضي عظمة الصلاة عليه. وجملة {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} هي المقصودة وما قبلها توطئة لها وتمهيد لأن الله لما حَذّر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه بل حظُّهم أكبر من ذلك وهو أن يُصَلُّوا عليه ويُسَلِّمُوا، وذلك هو إكرامهم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بينهم وبين ربهم فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة الفحوى، فجملة {يا أيها الذين آمنوا} بمنزلة النتيجة الواقعة بعد التمهيد. وجيء في صلاة الله وملائكته بالمضارع الدال على التجديد والتكرير ليكون أمر المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم عقب ذلك مشيراً إلى تكرير ذلك منهم إسوة بصلاة الله وملائكته. والأمر بالصلاة عليه معناه: إيجاد الصلاة، وهي الدعاء، فالأمر يؤول إلى إيجاد أقوال فيها دعاء وهو مجمل في الكيفية. والصلاة: ذِكر بخير، وأقوال تجلب الخير، فلا جرم كان الدعاء هو أشهر مسميات الصلاة، فصلاة الله: كلامه الذي يُقدِّر به خيراً لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن حقيقة الدعاء في جانب الله معطّل، لأن الله هو الذي يدعوه الناس، وصلاة الملائكة والناسِ: استغفار ودعاء بالرحمات. وظاهر الأمر أن الواجب كلُّ كلام فيه دعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم ولكن الصحابة لما نزلت هذه الآية سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية هذه الصلاة قالوا: «يا رسول الله هذا السلام عليك قد علمناه فكيف نصلي عليك؟» يعنون أنهم علِموا السلام عليه من صيغة بثّ السلام بين المسلمين وفي التشهد فالسلام بين المسلمين صيغته: السلام عليكم. والسلام في التشهد هو «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» أو «السلام على النبي ورحمة الله وبركاته». فقال رسول الله: قولوا: " اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ". هذه رواية مالك في «الموطأ» عن أبي حُميد الساعدي. وروي أيضاً عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ «وعلى آل محمد» (عن أزواجه وذريته في الموضعين) وبزيادة «في العالمين»، قبل: «إنك حميد مجيد. والسلامُ كما قد علمتم». وهما أصح ما روي كما قال أبو بكر بن العربي. وهناك روايات خمس أخرى متقاربة المعنى وفي بعضها زيادة وقد استقصاها ابن العربي في «أحكام القرآن». ومرجع صيغها إلى توجه إلى الله بأن يفيض خيرات على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن معنى الصلاة الدعاء، والدعاء من حسن الأقوال، ودعاء المؤمنين لا يتوجه إلاّ إلى الله. وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق يقتضي وجوب أن يصلي المؤمن على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان مجملاً في العدد فَمَحْمَله مَحْمل الأمر المُجمل أن يفيد المرة لأنها ضرورية لإِيقاع الفعل ولمقتضَى الأمر. ولذلك اتفق فقهاء الأمة على أن واجباً على كل مؤمن أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مرة في العمر، فجعلوا وقتها العمرَ كالحج. وقد اختلفوا فيما زاد على ذلك في حكمه ومقداره، ولا خلاف في استحباب الإِكثار من الصلاة عليه وخاصة عند وجود أسبابها. قال الشافعي وإسحاق ومحمد بن الموازِ من المالكية واختاره أبو بكر بن العربي من المالكية: إن الصلاة عليه فرض في الصلاة فمن تركها بطلت صلاته. قال إسحاق: ولو كان ناسياً. وظاهر حكايتهم عن الشافعي أن تركها إنما يبطل الصلاة إذا كان عمداً وكأنهم جعلوا ذلك بياناً للإِجمال الذي في الأمر من جهة الوقت والعدد، فجعلوا الوقت هو إيقاع الصلاة للمقارنة بين الصلاة والتسليم، والتسليمُ وارد في التشهد، فتكون الصلاة معه على نحو ما استدل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله: لأقاتلنّ من فَرق بين الصلاة والزكاة، فإذا كان هذا مأخذهم فهو ضعيف لأن الآية لم ترد في مقام أحكام الصلاة، وإلا فليس له أن يبين مجملاً بلا دليل. وقال جمهور العلماء: هي في الصلاة مستحبة وهي في التشهد الأخير وهو الذي جرى عليه الشافعية أيضاً. قال الخطابي: ولا أعلم للشافعي فيها قُدوة وهو مخالف لعمل السلف قبله، وقد شنع عليه في هذه المسألة جداً. وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم والذي اختاره الشافعي ليس فيه الصلاة على النبي، كذلك كل من روَى التشهد عن رسول الله. قال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتَّاب، وعلمه أيضاً على المنبر عمر، وليس في شيء من ذلك ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قلت: فمن قال إنها سنة في الصلاة فإنما أراد المستحب. وأما حديث " لا صلاة لمن لم يصل عليَّ " فقد ضعفه أهل الحديث كلهم. ومن أسباب الصلاة عليه أن يصلي عليه من جرى ذكره عنده، وكذلك في افتتاح الكتب والرسائِل، وعند الدعاء، وعند سماع الأذان، وعند انتهاء المؤذن، وعند دخول المسجد، وفي التشهد الأخير. وفي التوطئة للأمر بالصلاة على النبي بذكر الفعل المضارع في {يصلون} إشارة إلى الترغيب في الإِكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تأسيَّاً بصلاة الله وملائكته. واعلم أنا لم نقف على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون على النبي كلما جرى ذكر اسمه ولا أن يكتبوا الصلاة عليه إذا كتبوا اسمه ولم نقف على تعيين مبدأ كتابة ذلك بين المسلمين. والذي يبدو أنهم كانوا يصلون على النبي إذا تذكروا بعض شؤونه كما كانوا يترحمون على الميِّت إذا ذكروا بعض محاسنه. وفي «السيرة الحلبية»: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترى عمر من الدهش ما هو معلوم وتكلم أبو بكر بما هو معلوم قال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون صلواتُ الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله» وروى البخاري في باب: متى يحلّ المعتمر: عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تقول كلما مرت بالحَجون «صلى الله على رسوله محمد وسلم لقد نزلنا معه ههنا ونحن يومئذٍ خِفاف» إلى آخره. وفي باب ما يقول عند دخول المسجد من «جامع الترمذي» حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، قال الترمذي: حديث حسن وليس إسناده بمتصل. ومن هذا القبيل ما ذكره ابن الأثير في «التاريخ الكامل» في حوادث سنة خمس وأربعين ومائة: أن عبد الله بن مصعب بن ثابت رثى محمداً النفس الزكية بأبيات منها: والله لوْ شهد النبي محمد *** صلى الإله على النبي وسَلَّماً ثم أحدثت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل الكتب في زمن هارون الرشيد، ذكر ذلك ابن الأثير في «الكامل» في سنة إحدى وثمانين ومائة، وذكره عياض في «الشفاء»، ولم يذكرا صيغة التصلية. وفي «المخصص» لابن سيده في ذكر الخُف والنعل: إن أبا مُحَلِّم بعث إلى حذَّاء بنعل ليحذوها وقال له: «ثم سُنَّ شَفْرَتك وسُنّ رأس الإِزميل ثم سَمِّ باسم الله وصلّ على محمد ثم انحها» إلى آخره. ولا شك أن إتباع اسم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه في كتب الحديث والتفسير وغيرها كان موجوداً في القرن الرابع، وقد وقفت على قطعة عتيقة من تفسير يحيى بن سلام البصري مؤرخ نسخها سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة فإذا فيها الصلاة على النبي عقب ذكره اسمه. وأحسب أن الذين سنُّوا ذلك هم أهل الحديث. قال النووي في مقدمة شرحه على «صحيح مسلم» «يستحب لكاتب الحديث إذا مر بذكر الله أن يكتب عز وجل، أو تعالى، أو سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جل ذكره، أو تبارك اسمه، أو جلت عظمته، أو ما أشبه ذلك، وكذلك يكتب عند ذكر النبي «صلى الله عليه وسلم بكمالها لا رامزاً إليها ولا مقتصراً على بعضها، ويكتب ذلك وإن لم يكن مكتوباً في الأصل الذي ينقل منه فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء. وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما ذكرناه وإن لم يكن مذكوراً في الأصل الذي يقرأ منه ولا يَسأم من تكرر ذلك، ومن أغفل ذلك حُرم خيراً عظيماً» ا ه. وقوله: {وسلموا تسليماً} القول فيه كالقول في {صلوا عليه} حكماً ومكاناً وصفة فإن صفته حددت بقول النبي صلى الله عليه وسلم «والسلام كما قد علمتم» فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته». وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم «السلام على النبي ورحمة الله وبركاته». والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبي عليه الصلاة والسلام رعياً لما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حي يَبلُغه تسليم أمته عليه. ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأَحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلِّق به لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سلم عليه فقال: عليك السلام يا رسول الله فقال له: " إن عليكَ السلام تحيةُ الموتى، فقل: السلام عليك ". والتسليم مشهور في أنه التحية بالسلام، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة، وجعل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثأر ونحو ذلك إذ كانوا إذ اتقوا أحداً توجّسُوا خِيفة أن يكون مضمراً شراً لملاقيه، فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإِخبار بأنه مُلق على مُلاقيه سلامة وأمناً. ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالاً على الكرامة والتلطف، قال النابغة: أتاركة تدللها قطام *** وضِنًّا بالتحية والسلام ولذلك كان قوله تعالى: {وسلموا} غير مجمل ولا محتاج إلى بيان فلم يسأل عنه الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا السلام قد عرفناه، وقال لهم: والسلام كما قد علمتم، أي كما قد علمتم من صيغة السلام بين المسلمين ومن ألفاظ التشهد في الصلاة. وإذ قد كانت صيغة السلام معروفة كان المأمور به هو ما يماثل تلك الصيغة أعني أن نقول: السلام على النبي أو عليه السلام، وأن ليس ذلك بتوجه إلى الله تعالى بأن يسلم على النبي بخلاف التصلية لما علمت مِمَّا اقتضى ذلك فيها. والآية تضمنت الأمر بشيئين: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليممِ عليه، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مفرقان في كلمات التشهد فالمسلم مخيّر بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول: صلى الله على محمد والسلام عليه، أو أن يقول: اللهم صل على محمد والسلام على محمد، فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله، وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له، وبين أن يفرد الصلاة ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في «الشفاء» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول: من سَلَّم عليك سلمتُ عليه ومن صلى عليك صلّيتُ عليه. وعن النووي أنه قال بكراهة إفراد الصلاة والتسليم، وقال ابن حجر: لعله أراد خلاف الأوْلى. وفي الاعتذار والمعتذر عنه نظر إذ لا دليل على ذلك. وأما أن يُقال: اللهم سلم على محمد، فليس بوارد فيه مسند صحيح ولا حَسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه إلا بصيغة إنشاء السلام مثل ما في التحية، ولكنهم تسامحوا في حالة الاقتران بين التصلية والتسليم فقالوا: صلى الله عليه وسلم لقصد الاختصار فيما نرى. وقد استمر عليه عمل الناس من أهل العلم والفضل. وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم أنها قالت: «صلى الله على محمد وسلم». ومعنى تسليم الله عليه إكرامه وتعظيمه فإن السلام كناية عن ذلك. وقد استحسن أيمة السلف أن يجعل الدعاء بالصلاة مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وعن مالك: لا يصلّى على غير نبيئنا من الأنبياء. يريد أن تلك هي السنة، وروي مثله عن ابن عباس، وروي عن عمر بن عبد العزيز: أن الصلاة خاصة بالنبيئين كلهم. وأما التسليم في الغيبة فمقصور عليه وعلى الأنبياء والملائكة لا يشركهم فيه غيرهم من عباد الله الصالحين لقوله تعالى: {سلام على نوح في العالمين} [الصافات: 79]، وقوله: {سلام على آل ياسين} [الصافات: 130]، {سلام على موسى وهارون} [الصافات: 120]، {سلام على إبراهيم} [الصافات: 109]. وأنه يجوز إِتباع آلهم وأصحابهم وصالحي المؤمنين إياهم في ذلك دون استقلال. هذا الذي استقر عليه اصطلاح أهل السنة ولم يقصدوا بذلك تحريماً ولكنه اصطلاح وتمييز لمراتب رجال الدين، كما قصروا الرضى على الأصحاب وأيمة الدين، وقصروا كلمات الإِجلال نحو: تبارك وتعالى، وجل جلاله، على الخالق دون الأنبياء والرسل. وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على عليّ وفاطمة وآلهما، وهو مخالف لعمل السلف فلا ينبغي اتباعهم فيه لأنهم قصدوا به الغضّ من الخلفاء والصحابة. وانتصب {تسليماً} على أنه مصدر مؤكد ل {سلّمُوا} وإنما لم يؤكد الأمر بالصلاة عليه بمصدر فيقال: صلّوا عليه صلاةً، لأن الصلاة غلب إطلاقها على معنى الاسم دون المصدر، وقياس المصدر التصلية ولم يستعمل في الكلام لأنه اشتهر في الإِحراق، قال تعالى: {وتصلية جحيم} [الواقعة: 94]، على أن الأمر بالصلاة عليه قد حصل تأكيده بالمعنى لا بالتأكيد الاصطلاحي فإن التمهيد له بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} مشير إلى التحريض على الاقتداء بشأن الله وملائكته.
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه وحذّرهم مما قد يخفى على بعضهم من خفيّ الأذى في جانبه بقوله: {إن ذلكم كان يؤذي النبي} [الأحزاب: 53] وقوله: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} [الأحزاب: 53] وعلمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم بقوله: {ولا مستأنسين لحديث} [الأحزاب: 53] وقوله: {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً} [الأحزاب: 53] وقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56] الآية، وعلم أنهم قد امتثلوا أو تعلموا أردف ذلك بوعيد قوم اتسموا بسمات المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنون أن أولئك ليسوا من الإِيمان في شيء وأنهم منافقون لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين. فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه يخطر في نفوس كثير ممن يسمع الآيات السابقة أن يتساءلوا عن حال قوم قد علم منهم قلة التحرز من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بتوقيره. وجيء باسم الموصول للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم من أحوالهم المختصة بهم، ولدلالة الصلة على أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم هو علة لعنهم وعذابهم. واللعن: الإِبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون. فهم في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته، وهم في الآخرة محقرون بالإِهانة في الحشر وفي الدخول في النار. والعذاب المهين: هو عذاب جهنم في الآخرة وهو مهين لأنه عذاب مشوب بتحقير وخزي. والقرن بين أذى الله ورسوله للإِشارة إلى أن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم يُغضب الله تعالى فكأنه أذى لله. وفعل {يؤذون} معدى إلى اسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة. فاستعمل {يؤذون} في معنييه المجازي والحقيقي. ومعنى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من آذاني فقد آذى الله " وأذى الرسول عليه الصلاة والسلام يحصل بالإِنكار عليه فيما يفعله، وبالكيد له، وبأذى أهله مثل المتكلمين في الإِفك، والطاعنين أعماله، كالطعن في إمارة زيد وأسامة، والطعن في أخذه صفية لنفسه. وعن ابن عباس «إنها نزلت في الذين طعنوا في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حييّ لنفسه».
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} ألحقت حُرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنهم، وذكروا على حدة للإِشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وآداب أزواجه وبناته والمؤمنات. وعطف {المؤمنات} على {المؤمنين} للتصريح بمساواة الحكم وإن كان ذلك معلوماً من الشريعة، لوَزْع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم. والمراد بالأذى: أذى القول بقرينة قوله: {فقد احتملوا بهتاناً} لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين. والمراد بالمبين العظيم القوي، أي جُرماً من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه. وضمير {اكتسبوا} عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب، والمجرور في موضع الحال. وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب. وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا، أي أن يُسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولاً لعموم الناس ولكنه موكول إلى ولاة الأمور كما قال تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16]. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغِيبة وقال: «هي أن تذكر أخاك بما يكره. فقيل: وإن كان حقاً. قال: إن كان غير حق فذلك البهتان» فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى. وما صْدَق الموصول في قوله: {ما اكتسبوا} سيّئاً، أي بغير ما اكتسبوا من سيّئ. ومعنى {احتملوا} كَلَّفوا أنفسهم حَملاً، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمَل بهتاناً وإثماً مبيناً} في سورة النساء (112).
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى لأن من شأن المطالب السعي في تذليل وسائلها كما قال تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} [الإسراء: 19] وقال أبو الأسود: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد. وفي الحديث: «رحم الله والداً أعان ولده على بره». وهذا الحديث ضعيف السند لكنه صحيح المعنى لأن بر الوالدين مطلوب، فالإِعانة عليه إعانة على وجود المعروف والخير. وابتدئ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته لأنهن أكمل النساء، فذكرهن من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام به. والنساء: اسم جمع للمرأة لا مفرد له من لفظه، وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى: {ولا نسائهن} [الأحزاب: 55]. فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين بل المراد الإِناث المؤمنات، وإضافته إلى المؤمنين على معنى (من) أي النساء من المؤمنين. والجلابيب: جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقِناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذارَيْها وينسدل سائره على كتفها وظهرها، تلبسه عند الخروج والسفر. وهيئات لبس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات. والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}. والإِدناء: التقريب، وهو كناية عن اللبس والوضع، أي يضعن عليهن جلابيبهن، قال بشار: ليلةٌ تَلبَس البياض من الشهر *** وأخرى تُدني جلابيبَ سودا فقابل ب (تُدني) (تلبَس) فالإِدناء هنا اللبس. وكان لبس الجلباب من شعار الحرائر فكانت الإِماء لا يلبسن الجلابيب. وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكُنَّ لا يلبسْنَها في الليل وعند الخروج إلى المناصع، وما كنّ يخرجن إليها إلا ليلاً فأمرن بلبس الجلابيب في كل خروج ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض إليهن شباب الدُّعّار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافاً بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذيْنَ من ذلك وربما يسببْن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين. فهذا من سدّ الذريعة. والإِشارة ب {ذلك} إلى الإدناء المفهوم من {يدنين}، أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يُعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن. وكان عمر بن الخطاب مدة خلافته يمنع الإِماء من التقنع كي لا يلتبسن بالحرائر ويضرب من تتقنّع منهن بالدّرة ثم زال ذلك بعده، فذلك قول كثير: هنّ الحرائر لا ربات أخمرة *** سود المحاجر لا يقرأن بالسور والتذييل بقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإِسلامي، والتذييل يقتضي انتهاء الغرض.
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} انتقال من زَجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وأولئك هم المنافقون الذين ابتدئ التعريض بهم من قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله إلى قوله تعالى: عظيماً} [الأحزاب: 53]، ثم من قوله: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} إلى قوله: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} [الأحزاب: 57 59]. وصرح هنا بما كُني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنهم بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لُفَّ لِفَّهُم. و {الذين في قلوبهم مرض} قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإِيمان. و {المرجفون في المدينة}: هم المنافقون، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد، قاله أبو رزين. وجملة {لئن لم ينته} استئناف ابتدائي. وحذف مفعول {ينته} لظهوره، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين. والإِرجاف: إشاعة الأخبار. وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مرة بأنها صادقة لأن الإِشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدَّق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفَان وهو الاضطراب والتزلزل. فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدِّثون بها في مجالس ونَوادٍ ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل. ومعنى الإِرجاف هنا: أنهم يرجفون بما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمسلمات، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون: هُزموا أو أَسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإِيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ظن بعضهم ببعض. وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وأتباعهم وهم الذين قال الله فيهم {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} في سورة النساء (83). فهذه الأوصاف لأصناف من الناس. وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه لنغرينك بهم} لا يساعد أن فيهم مؤمنين. واللام في {لئن} موطئة للقسم، فالكلام بعدها قسم محذوف. والتقدير: والله لئن لم ينته. واللام في {لنغرينك} لام جواب القسم، وجواب القسم دليل على جواب الشرط. والإِغراء: الحثّ والتحريض على فعل. ويتعدَّى فعله بحرف (على) وبالباء، والأكثر أن تعديته ب (على) تفيد حثاً على الفعل مطلقاً في حدّ ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثاً على الإِيقاع بشخص لأن الباء للملابسة. فالمغرى عليه ملابس لذات المجرور بالباء، أي واقعاً عليها. فلا يقال: أغريته به، إذا حرضه على إحسان إليه. فالمعنى: لنغرينك بعقوبتهم، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله: {أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} فإذا حلّ ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم. واختير عطف جملة {لا يجاورونك} ب {ثم} دون الفاء للدلالة على تراخي انتفاء المجاورة عن الإِغراء بهم تراخي رتبة لأن الخروج من الأوطان أشد على النفوس مما يلحقها من ضر في الأبدان كما قال تعالى: {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191] أي وفتنة الإِخراج من بلدهم أشد عليهم من القتل. واستثناء {إلا قليلاً} لتأكيد نفي المجاورة وأنه ليس جارياً على طريقة المبالغة أي لا يبقون معك في المدينة إلاّ مدة قليلة، وهي ما بين نزول الآية والإِيقاع بهم. و{قليلاً} صفة لمحذوف دلّ عليه {يجاورونك} أي جواراً قليلاً، وقلته باعتبار مدة زمنه. وجعله صاحب «الكشاف» صفة لزمن محذوف فإن وقوع ضميرهم في حيز النفي يقتضي إفرادهم، وعموم الأشخاص يقتضي عموم أزمانها فيكون منصوباً على الوصف لاسم الزمان وليس هو ظرفاً. و {ملعونين} حال مما تضمنه {قليلاً} من معنى الجوار. فالجوار مصدر يتحمل ضمير صاحبه لأن أصل المصدر أن يضاف إلى فاعله، والتقدير: إلا جوارهم ملعونين. وجعل صاحب «الكشاف» {ملعونين} مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحاللِ كما في قوله تعالى: {إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} [الأحزاب: 53]. وبونُ ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه. والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه. واللعن: الإِبعاد والطرد. وتقدم قوله تعالى: {وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} في سورة الحجر (35)، وهو مستعمل هنا كناية عن الإِهانة والتجنب في المدينة، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلاً فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفاً من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبي، ففي قوله: {ملعونين} إيجاز بديع. وقوله: {أينما ثُقِفُوا} ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلِقٌ ب {ملعونين} لأن {ملعونين} حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة، فأفاد عموم أمكنة المدينة. و{أينما}: اسم زمان متضمن معنى الشرط. والثقف: الظفَر والعثور على العدوّ بدون قصد. وقد مَهَّد لهذا الفعل قوله: {ملعونين} كما تقدم. ومعنى {أخذوا} أُمسكوا. والأخذ: الإِمساك والقبض، أي أُسروا، والمراد: أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم. والتقتيل: قوة القتل. والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف نوعه وأيضاً هو شديد في كونه سريعاً لا إمهال لهم فيه. و {تقتيلاً} مصدر مؤكد لعامله، أي قتِّلوا قتلاً شديداً شاملاً. فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير {قُتِّلوا}، لرفع احتمال المجاز في عموم القتل، فالمعنى: قتلوا قتلاً شديداً لا يفلت منه أحد. وبهذا الوعيد انكفّ المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإِرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل منهم أحداً ولا أنهم خرج منهم أحد. وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فرداً صالحاً أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده». ولهذا شرعت استتابة المرتدّ قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة، وشرعت دعوة الكفّار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإِسلام قبل الشروع في غزوهم فإن أسلموا وإِلاّ عُرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم في الذمة انتفاعاً للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم. وأما قتل القاتل عَمداً فشُرع فيه مجاراةً لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بعض الأمة بعضاً، إذ لا دواء لتلك العلة إلا القصاص. ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله. ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الذين يحاربون الله ورسله: إن (أَو) فيها للتنويع لا للتخيير فقال: يكون الجزاء بقدر جُرْم المحارب وكثرة مُقامه في فساده. وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله.
|